الكشف الروحاني
الكشف في اللغة رفع الشيء عما يواريه و يغطيه. و في أصطلاح أهل الحقيقة : هي مكاشفة اليقين و معاينة الغيب, و هو نور يحصل للسالكين في سيرهم الى الله ، يكشف لهم حجاب الحس و يزيل دونهم اسباب المادة نتيجةً لما يأخذون به أنفسهم من مجاهدة و خلوة و ذكر, فتنعكس أبصارهم في بصائرهم , فينظرون بنور الله :عز:: و تنحني أمامهم مقايس الزمان و المكان, فيطّلعون على عوالم من أمر الله ليس لصاحب الحس إدراك شيء منها, و قد عدّ الشيخ عبد الوهاب الشعراني خمسة و عشرون نوعاً من الكشوفات التي تحصل للمريد الصادق في خلوته, و أن حصولها من علامات صحة الفتح و أولها الكشف في الظلمة ووراء الجدار و هو الكشف السلطاني و أعلاها معرفة جميع العلوم. والكشف أما أن يكون حسياً أو خيالياً, و الفرق بينهما في أن يغمض العبد عينيه عند رؤية شخص أو عند رؤية فعل , فإن بقي له الكشف فهو خيالي, و إن زال فليعلم أن الإدراك قد تعلّق بمكان مخصوص. و المكاشفة تكون بعد المحاضرة و قبل المشاهدة , قال الإمام القشيري في الرسالة, المحاضرة حضور القلب بتواتر البرهان و المكاشفة حضوره بنعت البيان و المشاهدة حضور الحق من غير بقاء تهمة, و عليه يفهم أن المكاشفة لا تفتقر الى تأمل الدليل و لا تاجأ الى دواعي الريب و لا تحتجب عن نعت الغيب. قال الإمام الجنيد رحمه الله : صاحب المحاضرة مربوط بأياته, و صاحب المكاشفة مبسوط بصفاته و صاحب المشاهدة ملقي بذاته , و صاحب المحاضرة يهديه عقله, و صاحب المكاشفة يدنيه علمه, و صاحب المشاهدة تمحوه المعرفة. و قال الإمام الغزالي رحمه الله في الإحياء " أن جلاء القلب و أبصاره يحصل بالذكر , و أنه لا يتمكن منه إلا الذين أتقوا, فالتقوى باب الذكر, و الذكر باب الكشف و الكشف باب الفوز الأكبر, و هو الفوز بلقاء الله تعالى ". و سبب الكشف قوة أحوال الروح و ضعف أحوال الحس, و يكون ذلك برجوع الروح عن الحس الظاهر الى الباطن, و الكشف هو وراثة محمدية صادقة ورثها بسبب صدقهم و تصديقهم و صفاء سريرتهم. و من مقدمات الكشف غض البصر عن المحارم, و كف النفس عن الشهوات و تعمير الباطن بمراقبة الله تعالى, و تعوّد أكل الحلال, و من موانعه أطلاق النظر الى المحرمات و الذي يطمس مرآة القلب بظلمات النفس. و دليل الكشف في القرآن الكريم قوله تعالى إن في ذلك لآيات للمتوسمين قال مجاهد : للمتفرسين, و قال (إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسم), و التوسم : تفعّل من السّيما و هي العلامة, فسمي المتفرس متوسماً لأنه يستدل بما شهد على ما غاب, قال (أتقو فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ). و من دلائل الكشف في القرآن الكريم ما جاء في حق إبراهيم عليه السلام من أن أراه الله ملكوت السموات و الأرض و كذلك نري إبراهيم ملكوت السموات و الأرض و ليكون من الموقنين و ما أخبر الله عن الخضر عليه السلام في كشف السفينة و الغلام و الكنز الذي تحت الجدار. و من أنواع الكشف عند رسول الله صلى الله عليه و سلم رؤيته وراء ظهره, و نعيه شهداء مؤتة قبل مجيء خبرهم. و من أنواع الكشف عند الصحابة رضي الله عنهم أخبا أبي بكر الصديق أبنته عائشة بموته في مرضه الذي مات فيه, و بمولودة تولد له بعد موته. و كشف عمر بن الخطاب و هو في المدينة جيش المسلمين في نهاوند, و معرفته بالكذب من الحديث , و التعجل على أهل العراق بحكم الحجاج فيهم , و كشف عثمان رضي الله عنه عن تأمل رجل أمرأة في الطريق , و كشف علي كرم الله وجهه عن قتل فتية من آل الرسول في كربلاء. ومن أنواع الكشف عند التابعين و من تبعهم من العارفين ما روي عن الإمام الشافعي في معرفة مهنة الرجل بمجرد رؤيته , و وقوع خاطر خير النساج بوقوف الجنيد بالباب و معرفة الجنيد بالخاطر, و معرفة الجنيد بدين الغلام الذي يسأله عن معنى حديث ( اتقوا فراسة المؤمن ) و اسلام الغلام على أثر ذلك. و الكشف درجة من درجات اليقين في حق أولياء الرحمن. و خلاصة القول فالكشف أمر جائز الوقوع, و هي منحة إلهية يكرم بها عباده الصالحين الذين تمسكو بدينهم و حفظوا جوارحهم و صقلوا قلوبهم و هذبوا نفوسهم, و لعل أشرف أنواع الفراسة و أنفعها للعبد في معاشه و معاده التي تحوم حول كشف طريق الرسول و تعريفها و تخليصها من بين سائر الطرق و بين كشف عيوب النفس, و أفات الأعمال العائقة عن سلوك طريق المرسلين. كما أن الكشف الحاصل للأولياء هو كشف باطني يدركونه في عالم المثال و الغيبة لا في حالة الصحو كالمنامات الصادقة تحتاج الى تأويل و تنزيل كامرائي و ليست كلها حقائق بل منها حقائق و منها تمثيل و مجاز و لا يميزها إلا صاحب الأنوار الواسعة و مع ذلك فالكمّل منهم يتخوّفون من الكشف.